في حضرة الرّوح، لك سلام الرّوح، يوم تأبطّت الوطن في رحلة سفر، ونصبت خيمتك وأسكنتنا.
توزّع علينا قصائدك كزجاجات عطرٍ، فارتعشت لها أجسادنا المنهكة، تتشكّل كينونتنا بها زادًا من حواضر فلسطين، ورائحة تربتها، وطعم خبزها، وقهوة الأم ولون البحر، ورمل الطرقات وأشجار الخروب وزهر الدّحنون والزّعتر، كأنّك تأتي بالوطن إلينا، هل حملته بحقيبتك؟ أم أن الوطن حقيبة لأننا على سفر، نحمله أينما حطّت الرّحال، ألم تقل وطني ليس حقيبة/ وأنا لست مسافر/ أنا العاشق والأرض حبيبة، يوم كسرت فينا فكرة اللاجيء.
في حضرة السّفر، يوم صارت بيروت خيمتك وصورتك وسورك ونجمتك.. ومن على وسادتها استدعيت كلّ أحلامنا وأجدت محاكاة الرّوح، وألّفت بحضورك فينا معنى غيابنا.
لم تكن خطيب الثّورة وإن كنت منبرها، بل رسول القضيّة الأكثر اتّساعًا وعمقًا وتكثيفًا لناسها وأحلامها وروحها، وشاعر أكثر عذوبة من الشّعر نفسه. كأنّك بلسمًا لهمومنا، نستعيد قوانا كلّ مرّة من أجل مهمّة جديدة، وحصار جديد وعبور جديد.
كأنّك صورة طبق الأصل عن اختلاجات ودلالات وتموّجات لروح القضيّة ومحاكاة جماليّة لتناقضاتها، بين عالم خارجنا، وعالم داخلنا، بين من بعث فينا الوطن والمنفى داخله، ويعيش في المنفى والوطن يسكنه. صارت القصيدة تحلّق تحت جناحيك، ومعها القضيّة تسمو بها إلى مدى البحار ورفعة الإنسانيّة.
قصائدك هي ميثاق وحدتنا الرّوحيّة، جواز سفرنا، هي الجنسيّة التي كتبتها على كلّ قلوب النّاس، هي الهويّة الأكثر صلابةً وصلاحيّةً من الجغرافيا والطّوائف والفصائل والسّياسة وشبق السّلطة وشهوة المصالح الذاتيّة. لقد كتبت يومًا وثيقة استقلالنا وعلى الأرض التي تستحقّ الحياة.
ما لا تريده أنت أن يكون الأمن الدّوليّ بخير، حينما يخرج الفلسطينيّ من فلسطينيّته، حين تنتصر الضّحيّة على الضّحيّة، ويغادر الفلسطينيّ إنسانيّته عندما يصير هو ليس هو، والإنسان غيره.. وأن تحبّ غزّة ليس لأنّ فيها الأجمل من الأشياء_ وهي ليست كذلك_ بل لأنّها الأفجّ في نظر العدو.. فهل ما زالت كما قلت يومًا أنّ الحقيقة عذراء في غزّة؟
محمود درويش لا تموت، قبل أن تلملم أطرافنا المبعثرة في بيتٍِ من قصيدة هي وطن الذّوق والرّوح والحسّ الجميل، ولتذكّرنا ما أكبر الفكرة .. ما أوسع الثّورة.. ما أصغر الدّولة. لنردّد من الأوصال المقطّعة بالجدارات.. : ما أجمل المقاومة! .. ما أقبح "البوليس" السّلطة !
سنأذن لك أن تنام قليلاً!
هل أحسست بالنّوم يتغلغل فيك، ألم تهزم الموت، وأنت مثل "أنكيدو" منّت عليه الآلهة بالخلود، ومنّ الشّعر عليك بالبقاء.. وفي هروب إلى ظلّك العالي، في حضرة سيّدة الأرض حيث ترقد مع نسغ العشب.
ونحن نعلل النّفس بقصيدةٍ جديدةٍ منك، قادمة من بطن الأرض وعلى وسادةٍ من تراب "البروة". مخيّمات المنفى يا محمود، _ التي قلت عنها _ " إذا ابتسم المخيّم/ تعبس الدّول الكبرى.." تمدّ يدها للإمساك بك.. ولا تعبس حتّى لا تبتسم الدّول الكبرى.
هل تعرف لماذا ما زلنا نحبّ المخيّم؟
ليس لأنّه يساوي جمال المدن المحيطة فهو حزام حرمان وجزيرة بؤس . ونحبّه مع أنّه ليس وطن ،هو إقامة قسريًة ومؤقّتة، لكننا نحبّه لأنّه الأقبح في وجه العدوّ. فهي التي كانت تسير معك على كلّ سطرٍ وخطوةٍ ومطارٍ وحاجزٍ ورحيلٍ.. هي اليوم تسير خلفك.. ولأنّك تلامس جرحها وشهداءها وعذابها وترابها البعيد واسمها يلامس إسمك..
قبل مخيّم نهر البارد كانوا اثنا عشرة مخيّمًا واليوم صاروا إحدى عشر كوكبًا...المخيّمات التي تشيهك تمامًا، عاشقة تدحرجت بكعب بندقيّة محتلّ، منذ ستين عامًا من على سفوح جليلها وكرملها.. صارت إنسانيّتها تذوب وتعبر بين شفاه ذوي القربى. مثل لغة عابرة بين الكلمات العابرة.. فهي ليست أكبر من سبق...
سبق صحفيّ، سبق أمني، سبق إنتخابيّ وسبق لسوق المناقصات أو المزايدات، وهي مشغولة مثلك بالبحث عن أحمد العربيّ فيها، لأنّ حزنها العاديّ صار فوق العادي، واللامقبول أمسى مقبولاً.
سنقول كما طلبت، لتسكت دموع اليوم إن كانت تشبه دموع الأمس.